في سنة الدبلوم كانت هناك مادة للبحث العلمي تعطى لنا فيها كيفية كتابة البحث بشكل علمي و كانت تتناول أسس التوثيق و طرق كتابة الأبحاث العلمية
الآن أدركت أهمية هذه المادة حيث أن ما سأورده كان يمكن أن يكون بحثا لكن افتقاره إلى التوثيق العلمي جعلني اقتصر على ذكره هكذا كمقتطفات جمعتها من هنا و هناك خلال مطالعاتي للعديد من الكتب و المقالات الاقتصادية
تعد قضية التنمية من الأمور الهامة التي تهتم بها الدولة لأنها تعكس نتائج برامجها الاقتصادية و الاجتماعية على كافة أفراد المجتمع و هنا سأتطرق إلى بعض الأمور التي تخص عملية التنمية من الناحية النظرية و سأعرج كذلك على دور المؤسسات و الأفراد في إحداث هذه التنمية المنشودة
بداية لنعلم أن الله استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم و نستر عورتهم و نوفر لهم حرفتهم
فإذا أعطيناهم هذه النعم تقاضيناها شكرهم
وإن الله خلق الأيدي لتعمل فإذا لم تجد في الطاعة عملا التمست في المعصية أعمالا فاشغلوها بالطاعة قبل أن تشغلكم بالمعصية
وليكن النظر في عمارة الأرض أبلغ من النظر في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة و من طلب الخراج بغير العمارة أخرب البلاد و العباد و لم يستقم أمره إلا قليلا
أهم تحد أمام الحكومة هو استمرارية تحقيق معدلات نمو مرتفعة
حيث أن معدلات النمو المرتفعة هذه لا بد أن تساهم في تعزيز الدور الذي تلعبه الحكومات في الجانب الإنمائي
و إن الدور الإنمائي للحكومات له بعدين :
بعد اقتصادي يتمثل في تهيئة المناخ المناسب للنمو و استمراريته و تحسين المستوى المعيشي للسكان
و البعد الاجتماعي المتمثل في الصحة و التعليم و الضمان الاجتماعي
لقد دلت التجارب التنموية على عدد من الحقائق التي يجب ملاحظتها و منها
* أن استقرار الاقتصاد شرط ضروري لتحقيق النمو اللازم للتنمية
* لا يتسرب النمو إلى الفقراء تلقائيا لذلك لابد من تدخل الدولة لنتحول من النمو إلى التنمية و نحصد نتائج النمو
* التنمية المنشودة تهدف إلى تحقيق زيادة في الحقوق الاقتصادية و السياسية و المدنية لكل الناس بغض النظر عن العرق و الجنس و الدين
* النمو الاقتصادي خلال المراحل الأولى للتنمية يكون مصحوبا بازدياد عدم المساواة في توزيع الدخول لذلك لا يعتمد على السوق في المراحل الأولى للتنمية ولا بد من تدخل الدولة لتوجيه عملية التنمية
التنمية تحتاج إلى رؤية أوسع لدور المؤسسات في المجتمع هذه المؤسسات التي تعتبر شريكا للدولة في تحقيق أهدافها المنشودة في التنمية لكننا هنا لا نقصد أي مؤسسات حيث أن المؤسسات الربحية قد تصنع مجتمعا متقدما لكنها لا تصنع مجتمع عظيما لأن المؤسسات الربحية تسعى إلى تحقيق الأرباح بالدرجة الأولى و لا تكترث كثيرا بقضايا التنمية التي تستهدفها الدولة
لكن على هذه المؤسسات إذا أرادت أن تساهم في عملية التنمية عليها أن تدرك أن الأرباح هي غاية و ليست وسيلة
نحن لا نقول أن تعمل المؤسسات بخسارة لكن أن ل و أن لا يكون هدفها هو تحقيق الربح و تنئا بنفسها عن مهامها و مسؤولياتها الاجتماعية في المجتمع و هذا لا يكون إلا إذا عملت هذه المؤسسات ضمن بيئة مثالية يسودها المصداقية و الاحترام و العدل( لها و عليها) فكما هي تطلب أن تعامل من قبل الدولة و الأفراد بمصداقية و احترام و عدل فإن الدولة و الأفراد يطالبانها بنفس الشيء
لكن ما هو عماد المؤسسات إنهم العاملين فيها
وهنا هو بيت القصيد
في سابقة هي الأولى من نوعها في الدولة شاهدنا أكبر مظاهرة في تاريخ الدولة قام بها ما يربو على 40 ألف عمال استنكارا للأوضاع التي يعيشونها
و سمعنا الكثير من التعليقات على هذه المظاهرة و كلها ألقت باللوم على العمال فبالعض قال إن العقد شريعة المتعاقدين وإن العمال قبلوا بأجرهم هذا منذ البداية فلا يحق لهم الاعتراض عليه
و البعض الآخر ذهب إلى أبعد من هذا و ربط ما جرى بنظرية المؤامرة الخارجية
ولم نسمع من أحد من اعترض على هذه الشركات التي وضعت موظفيها في حالة أجبرتهم فيها على الانتفاض في وجه ظروف لم تعد تطاق من قبلهم
نرد على الفريق الأول بأن العقد شريعة المتعاقدين هذا صحيح لكن بالمقابل قال الرسول (ص) فيما معناه الرضا لا يحل الحرام و قال فيما معناه كذلك أن من اخذ من حق أخيه شيئا فإنما يأخذ قطعة من النار
وسأشرح هنا قليلا ما أريد أن أقوله
كلنا يعرف الآن المرحلة المزدهرة التي تعيشها الدولة و ما يرافقها من نهضة عمرانية و اقتصادية و اجتماعية في كافة المجالات لكن هذه الفورة الاقتصادية كانت مقرونة بمعدلات مرتفعة من التضخم وكما هو معروف فإن هذا التضخم ضريبة يدفعها الفقراء للأغنياء حيث أنه يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية للدخول و ارتفاع القيمة النقدية للأصول العينية و في المقابل
لم نلاحظ تعديلات في أوضاع العمال و الموظفين تواكب هذه الارتفاعات المتزايدة في تكلفة المعيشة و إن كان هناك أي تعديلات فإنها لم تكن متناسبة و الغلاء الحاصل في المعيشة
و إذا أردنا أن ننظر إلى الأمر الآن فإنه يبدو أكثر سوءا من خلال انخفاض قيمة الدرهم المربوط بالدولار مما يخفض من قيمة تحويلات العاملين إلى الخارج فكان الخسارة هنا مضاعفة بالنسبة للعمال
البعض قال بضرورة محاسبة العمال المتظاهرين و البعض الآخر ذهب إلى ضرورة تسفيرهم خارج البلاد ولا ندري لم ذلك
الملفت للنظر الطريقة الهادئة التي استطاعت بها الحكومة مواجهة هذه المظاهرات و استيعاب هؤلاء العمال و العمل على توفيق وجهات النظر بينهن و بين الشركات التي يعملون بها دون أن يكون لها أي رد فعل عدواني أو انتقامي مما ساهم بحل الأزمة بشكل سلسل و موضوعي
حتى نضمن عدم تكرار مثل هذه الأمور و أن نصبح نرى إضرابات و مظاهرات على كل كبيرة و صغيرة في الدولة على المؤسسات أن تدرك أنها مطالبة بتامين استقرار مادي و نفسي لموظفيها بحيث تضمن هي استقرارها و تضمن الدولة بالتالي استقرار اقتصادها حتى تستمر عملية النمو و التنمية في الدولة
إذا كانت المطالبات بزيادة أجر العاملين الآن مبررة علميا و اقتصاديا لا يمكننا القبول بها في مراحل أخرى
فمثلا من غير المقبول في ظل ثبات تكلفة المعيشة أن نسمع مطالبات بزيادة الأجر حيث أنه في مثل هذه الحالة لابد و أن تكون زيادة الأجر مترافقة و زيادة الإنتاجية لأن أي زيادة في الأجر لا ترافقها زياد في الإنتاجية ستؤدي إلى التضخم لا محال و ندخل من جديد في الحلقة المفرغة ذاتها
لذلك علينا أن ندرس موضوع الأجور بشكل مستقل أكثر و نرى النظريات المختلفة التي تحدد مستويات الأجور و أخص بالذكر هنا الحد الأدنى للأجر
هل يجب على الدولة أن تحدد حد أدنى للأجر تراه هي مناسبا حسب تكلفة المعيشة في الدولة أم أنها تترك الأمر لقوى العرض و الطلب في السوق ؟حيث سنتركه للمرات القادمة
لكن باختصار على الأجور أن تكون عادلة و تعكس الكفاءة في الإنتاجية
و أنه يجب التركيز على الأجر الأساسي و ليس على الحوافز و البدلات في موضوع الأجور
إن المعادلة الأخلاقية التي يجب على المؤسسات و الأفراد إتباعها هي إذا حضرت الأخلاق فلا وزن لأي فشل يصيبك و إذا غابت الأخلاق فلا وزن لأي نجاح يصيبك
هذه ما برهنت عليه الكثير من المواقف و منها أنه خلال أزمة جنوب شرق آسيا تم ملاحظة كيف وقف الشعب في كوريا في مساندة حكومته في تخطي هذه الأزمة بل وقيل حينها أن النساء كانت تتبرع بحليها إلى الحكومة لأنها وقفت معهم في فترات الرخاء فكان لزاما عليهم الوقوف معها في أوقات الشدة
كل هذه التجارب التي نمر بها و تشهدها ساحتنا إنما هي إغناء لتجربتنا و إننا في المستقبل لن نندم عيها بل إننا سنندم على الأمور التي لم نعلمها لأنها إن كانت صوابا فخير و إن كانت خطا فدرس منه نستفيد
وعلينا أن نقبل بكل التحديات التي تواجهنا لأن التحديات هي التي تكسب الحياة طعمها الحلو و تجعلها مثمرة
والله أعلم