الأحد، 11 نوفمبر 2012

الإقتصاد والأخلاق

لقد مهد مؤسس علم الإقتصاد الحديث ـ آدم سميث ـ لكتابه عن “ثروة الأمم”، بكتاب سابق له عن “نظرية الشعور الأخلاقى” تطرق فيه إلى القيم الأخلاقية والنوازع البشرية. وقد كانت الفكرة المحورية عند سميث هى أن السوق توظف المصلحة الخاصة لتحقيق المصلحة العامة، ومن هنا عبارته المشهورة عن “اليد الخفية”. فعندما يسعى المنتج لتحقيق مصلحته الخاصة، فإنه يعمل ـ دون أن يدرى ـ لتحقيق المصلحة العامة. ولكن المصلحة الخاصة وحدها لا تكفى، ونجاح الإقتصاد يتطلب الكثير من المبادىء الأخلاقية.
فالتاجر ـ حتى ينجح ـ لابد وأن يكون أميناً فى علاقاته مع مورديه ومع زبائنه. وإذا فقد ثقة الآخرين فيه بارت تجارته وأصدر حكماً على نفسه بالخراب والإفلاس. فالثقة هى أساس النجاح الإقتصادى؛ الثقة بالنفس، والثقة بالغير، والثقة بالمستقبل. ولكن الثقة ليست مجرد حالة نفسية، بل لابد وأن يسندها واقع إجتماعى مستقر مبنى على تجارب سابقة ومدعوماً بتوقعات معقولة بإستمرار أسبابها.
هل الثقة مجرد صفات شخصية فى بعض الأفراد، أم هى، على العكس، ظاهرة إجتماعية؟
يبدو لى أن المسألة إجتماعية بالدرجة الأولى فتعرف مجتمعات الثقة ـ بشكل عام ـ سلوكاً منضبطاً وصادقاً وأميناً ومسئولاً من الغالبية من الإفراد. ولذلك فإن ثقة المجتمع لها ما يبررها من سلوك ملموس من معظم الأفراد. فدول الثقة هى بشكل عام الدول التى يظهر فيها الأفراد ـ أو معظمهم ـ إنضباطاً أخلاقياً فى السلوك بالصدق فى القول، وإتقان العمل، وأداء الحقوق لأصحابها، والإلتزام بالمواعيد، ورعاية حقوق الجار، وهكذا. فهذه الدول لا يحكمها القانون الوضعى وحده، بما يتضمنه من تشريعات ومحاكم، ولكن هناك قانون أخلاقى أوسع مجالاً وأشد قسوة، ولو لم ينص القانون الجنائى على عقوبة لها، فمراعاة نظافة الطريق ورعاية حقوق الجار وإحترام قواعد المرور هى إحترام للذات قبل أن تكون خوفاً من تدخل الشرطى أو القاضى. وهكذا فوازع الأخلاق أكثر فعالية من الخوف من جزاء القانون. فأنت تستطيع أن تتحايل على القانون، ولكنك لا تستطيع أن تتهرب من وازع الضمير وحكم المجتمع. ولذلك، نرى أن مجتمعات “الثقة” هى أيضاً مجتمعات القيم الأخلاقية، وحيث الكذب هو أشد الإنحرافات وأكثرها جلباً للعار. حقاً، هناك فى كثير من الأحوال تجاوز فى الحريات الشخصية أو حتى شذوذ فى بعض الأفعال، ولكنها، كلها، تتم فى وضح النهار دون رياء أو إدعاء أو نفاق. فالصدق والصراحة تعلو على ما عداها.
وكثيراً ما نسمع أقوالاً عن أن “التجارة فهلوة” أو أنها “شطارة”، فى حين أن الحقيقة التاريخية تؤكد أن نمو التجارة وإزدهارها قد إرتبط بقيم الصدق والأمانة وإتقان العمل وتحمل المسئولية. وقد تبلور كل هذا تحت مسمى “السمعة”، والتى أصبحت أحد أهم القيم الإقتصادية لأى مشروع ناجح. و”السمعة” لا تعنى فقط الصفات الشخصية بعدم الكذب أو عدم السرقة، ولكنها تتضمن الكفاءة الإنتاجية والإلتزام بتنفيذ التعهدات وإحترام المواعيد وعدم الغش فى المواصفات، وهكذا. “فسمعة” المشروع (الإسم التجارى) هى أحد أهم عناصر رأس مال المشروع، وإذا فقد المشروع هذه السمعة أو تدهورت مصداقيتها، فقد ضاع مستقبله أو تهدد بشكل كبير. فالمشروع يعمل من خلال السوق ومن أجل السوق، ولذلك فإن “السمعة” هى الضمان الحقيقى لإستمرار المشروع ونجاحه.
ورغم أن المبادلات فى الأسواق البدائية بين أهل القرية أو المدينة، قد عرفت فى الحضارات الزراعية القديمة، فقد ظل دورها محدوداً، ولم يتوسع أمرها إلا مع قيام الثورة الصناعية أو فترة الإعداد لها عندما توسعت التجارة الدولية عبر القارات، خاصة فيما بين الشرق الأقصى فى الصين والهند وبين غرب أوروبا وتوسطتها الدولة الإسلامية. ويتم التعامل فى هذه الأسواق بين الغرباء من مختلف المدن والدول. وفى خلال رحلة المواد الخام والسلع المصنعة لآلاف الأميال بين أقصى الشرق وأقصى الغرب والتى تستمر شهوراً فإنها تتطلب أكبر قدر من الضمانات والثقة فيما بين المتعاملين. وقد نجح العديد من التجار من العرب ثم من الأوروبيين وخاصة من المدن الإيطالية فى تطوير شبكات وعلاقات مستقرة من مختلف الأوساط التجارية فى هذه البلدان. وهى علاقات تقوم على الثقة والإئتمان والصدق. ونجح التجار من المدن الإيطالية وخاصة فلورنسا فى تطوير الأوراق التجارية التى تمثل ملكية البضاعة فى الطريق. وإلى جانب شبكة فلورنسا فقد عرفت شبكة أخرى بإسم “الشبكة المغاربية” وهى تتكون من اليهود الذين هاجروا من بغداد وتوزعوا فى مختلف البلدان وخاصة فى دول المغرب العربى وشمال أفريقيا. وكان هؤلاء يتعاملون فى التجارة عبر الحدود ويضمنون سلامة مرور البضاعة من بلد إلى آخر وتسليمها إلى طرف آخر فى دولة أخرى من بين أعضاء الشبكة حتى وصولها إلى السوق النهائى. وبالمثل فقد ظهرت العائلات خاصة من اليهود والذين تخصصوا فى التجارة عبر الحدود وفى تمويل هذه العمليات بين مختلف البلدان. ومن أشهر هذه العائلات عائلة روتشيلد منذ القرن الثامن عشر. وإسم العائلة مستمد من الدرع الأحمر Red Shield وبدأت فى فرانكفورت مع مؤسسها ماير أمشيل حيث آلت ثروته إلى عائلته: صامويل فى فينا وناثان فى لندن وكالمان فى نابولى وجاكوب فى باريس. وبذلك تكونت شبكة عائلية ترتبط بالثقة شبه المطلقة فى العلاقة بين أبناء العم مما قوى من مركزها المالى.
وهكذا بدأت بوادر الثورة الصناعية مع إستقرار التجارة عبر الحدود وإعتمادها على الثقة فى التعامل بين التجار، وقد طور التجار عدداً من الأدوات القانونية ـ المعتمدة على الثقة ـ لتسهيل إنتقال السلع وتداولها، لعل من أهمها ظهور فكرة “الأوراق التجارية” والتى تتداول ملكيتها وتنقل بالتالى ملكية البضاعة لحامل الورقة الجديد. وظهر إلى جانب التجار، “الحرف” والتى تعنى بتطوير المهنة وتوفير الخبرة الفنية وسلامة المعاملات، وحيث يرتبط “الصبى” “بالعلم” إرتباطاً مهنياً وشخصياً حتى يصبح بدوره معلماً. وكان رؤساء هذه الحرف حريصين على حماية المهنة فنياً وأخلاقياً. وكان شهبندر التجار أو من يقوم مقامه بمثابة الأب الروحى للمهنة. ومن يخرج على تقاليد المهنة، فإنه يكاد يفقد كل قدرة على الكسب ويصبح طريد الجماعة.
وهكذا، ظهر إقتصاد السوق فى شكله الحديث، حيث قام على المبادلة والإعتماد المتبادل بين الإفراد من ذووى التخصصات المختلفة، وهو إقتصاد يعتمد على مصداقية كل متعامل مع الآخرين. وتعمل كل مهنة على ضمان تقاليد المهنة وحماية أخلاقياتها فى التعامل. ونظراً لأن التجارة والتجار يتعاملون أكثر من غيرهم بالنقود والإقراض والإقتراض، فقد أصبحت الثقة أهم عنصر فى النشاط التجارى ولذلك تحرص معظم  القوانين المدنية على توفير الضمانات القانونية للثقة فى التعاملات. فإذا كانت الكتابة مطلوبة فى إثبات المطالبات المالية بين الأفراد، فإن هذه القوانين التجارية تكتفى بأى دليل ولو لم يكن مكتوباً. فالكلمة هى أساس الإلتزام فى المعاملات التجارية.
ولكل ذلك فإن النجاح الإقتصادى لن يتحقق بمجرد إعلان أو إتخاذ سياسات إقتصادية سليمة إن لم يصاحبها بيئة أخلاقية مناسبة للتعامل الإقتصادى الصحى والقائم على الصدق والأمانة والمسئولية فى أداء الأعمال بالدقة والمهنية. الإقتصاد لا يعمل فى فراغ، بل لابد وأن تصاحبه بيئة إجتماعية مناسبة تدرك المسئولية الأخلاقية. فقيم “الكسب السريع″ أو “كبر مخك” لن تقيم إقتصاداً سليماً. البنية الأساسية الأخلاقية لا تقل أهمية عن البنية الأساسية المادية. وبطبيعة الأحوال فإن القانون يفرض العديد من ضمانات السلوك النزيه، ولكنه وحده غير كاف، ولابد من الضمير الأخلاقى للمجتمع. لقد عرف الرسول عليه السلام، قبل نزول الوحى، “بالصادق الأمين” نتيجة لنزاهة معاملاته فى التجارة. فالصدق والأمانة تظهر أبرز ما تكون فى العلاقات التجارية. ومن هنا فإن الإقتصاد أحوج الآن إلى الأخلاق من أى وقت. فلا إقتصاد دون أخلاق. ولعلى أضيف أيضاً أنه لا أخلاق فى غيبة إقتصاد قوى وسليم. والله أعلم
 الاهرام 21 اكتوبر 2012
 منقول عن الدكتور حازم الببلاوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق